• الساعة الآن 10:59 PM
  • 20℃ صنعاء, اليمن
  • -18℃ صنعاء, اليمن

ما الذي ينتظر سوريا ولبنان؟

news-details

يوم الخميس الماضي، تحدث سفير الولايات المتحدة لدى تركيا عن مساع "إلى خفض التصعيد وإطلاق الحوار" حول الصراع المتواصل في سوريا. ومع ذلك، فقد شنت القوات الأميركية الخاصة يوم الجمعة ضربات في أعماق سوريا، على مقربة من حلب، أسفرت عن مقتل أحد كبار قياديي "داعش". وهذا التناقض الصارخ هو خير تجسيد لحجم تعقيدات مستقبل سوريا، ولحجم الرهانات الإقليمية والدولية المرتبطة به. وبما أن إسرائيل تنظر إلى حدودها الشمالية مع سوريا ولبنان على أنها امتداد حدودي واحد يقتضي آلية دفاعية متكاملة، فإن تهديدات الداخل اللبناني مرتبطة بصورة وثيقة بالتهديدات في سوريا، أو على نطاق أوسع، بالدور الإيراني في تقويض الاستقرار في أرجاء منطقة الشرق الأوسط.

سقوط نظام الأسد الديكتاتوري في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) الماضي، إلى جانب الخسائر الفادحة التي تكبدها كل من "حزب الله" وحركة "حماس" سابقاً، ناهيك بالضربات الإسرائيلية والأميركية على برنامجي الأسلحة النووية والصواريخ البالستية في إيران، كلها مستجدات أحدثت تحولاً جذرياً في ما سماه السوفيات يوماً "توازن القوى" في المنطقة. وبالفعل، يشير الانقلاب الجذري في حظوظ إيران وحلفائها، في أعقاب الفشل المدوي لاستراتيجية "طوق النار" الموجهة ضد إسرائيل، إلى أن طهران ما عادت تمثل المصدر الأكبر والوحيد للخطر.

ومشكلات اليوم تتجذر من "معاهدة فرساي" المبرمة في عام 1919، وما تلاها من ترتيبات هدفت إلى إعادة رسم معالم الإمبراطورية العثمانية. ولا شك في أن تركيبات الحكم العثمانية كانت بعيدة كل البعد من المثالية، لكن فرنسا والمملكة المتحدة كانتا ترعيان فعلياً مصالحهما الخاصة، عبر تحويل الأراضي العربية الواقعة جنوب ما بات يعرف اليوم بالدولة التركية إلى دول منتدبة في "عصبة الأمم". وفي هذا السياق، قررت فرنسا مواصلة تقسيم سوريا، وهي الدولة التي انتدبتها، فاستحدثت لبنان الكبير، وجبل الدروز، وحلب، ودمشق، والدولة العلوية. وصحيح أنه بعد سقوط الأسد، ما عاد أحد يتوقع من سوريا أن تضم لبنان إليها. لكن السؤال الأصعب يبقى عن الطريقة التي ستدار فيها العلاقات بين العلويين، والدروز، ومختلف الشرائح المسيحية في ظل حكومة "هيئة تحرير الشام" الجديدة. وفي لبنان، لا يزال الغموض يلف دور "حزب الله"، وهو الذراع الإيرانية، من وجهة نظر طهران طبعاً.

مع تراجع الدور الإيراني الذي لم يعد ذا أهمية كبرى يعتد بها في سوريا، فرضت تركيا نفسها بحزم، برئاسة رجب طيب أردوغان، منذ انطلاق الربيع العربي، وهو ما شكل تهديداً خطراً لنظام الأسد. وعلى امتداد الحرب الأهلية السورية التي أعقبت الربيع العربي، قدم أردوغان دعمه لعدد من المجموعات المتمردة، آملاً بذلك إرساء حكم "الإخوان المسلمين" في دمشق. وكان يسعى فعلياً إلى قدوم قائد سوري يمكن أن تتحكم به أنقرة، من دون أن يتلقى أي توجيهات من طهران.

ومع أن "هيئة تحرير الشام"، المعروفة سابقاً باسم "جبهة النصرة" المتحدرة من تنظيم "القاعدة"، لم تكن الخيار الأفضل بنظر أردوغان، لكنه اعتبرها أفضل من لا شيء. وبالتالي، قرر مع أبو محمد الجولاني استغلال الفرصة السانحة أواخر عام 2024 لإطاحة نظام الأسد بسرعة. وكانت اللحظة مواتية بسبب انهماك روسيا وإيران بحروبهما الخاصة، الأولى في أوكرانيا، والثانية في الشرق الأوسط، بعد أن اعتادتا حماية الأسد من الربيع العربي. ومن ثم، ما كانت مساعي "هيئة تحرير الشام" إلى إطاحة الأسد لتنجح يوماً بغياب الدعم التركي. ومع ذلك، وعلى رغم الدور الإيجابي لتراجع النفوذ الروسي والتخلص النهائي من دور إيران في سوريا، ما من توافق على الدور المرتقب لنظام "هيئة تحرير الشام"، فهل يكسب أردوغان رهانه؟ أم يعود ذلك النظام كلياً لجذوره الإرهابية؟ بكل بساطة، لا نعرف. بيد أن مشاهدة المقاتلين الأجانب، الذين كانوا التحقوا سابقاً بالجماعات الإرهابية، وهم ينضمون اليوم إلى الجيش السوري الجديد، لا تبعث أبداً على الاطمئنان. والمؤكد، في هذا السياق، أن أحداً لا يريد نسخة ثانية من الإمبراطورية العثمانية، أو أسوأ حتى، تحويل سوريا إلى "أفغانستان على ضفاف البحر المتوسط".

والهدنة الأخيرة التي توصل إليها أردوغان مع المتمردين الأكراد في تركيا تبدو إيجابية، بيد أن ما دفعه إليها قد يكون منبثقاً من حاجته الملحة إلى حشد الدعم المحلي للتصدي للمعارضة التي توحد صفوفها أكثر فأكثر في أوساط الناخبين الأتراك المنتمين إلى الأقليات العرقية. والحال أن الأكراد في شمال شرقي سوريا، ولا سيما "قوات سوريا الديمقراطية" برئاسة مظلوم عبدي، قد دخلوا في مفاوضات صعبة مع نظام "هيئة تحرير الشام". ولا شك في أن عداء أردوغان لـ"قوات سوريا الديمقراطية"، ووجود عديد الجيش الأميركي شرق نهر الفرات، قد حالا دون توغل الجيش التركي في شمال شرقي سوريا ومن الاستيلاء عليه.

وعليه، وقبل الانشغال إلى حد الهوس بالصراع في جنوب سوريا، الذي تدخلت فيه إسرائيل لحماية السكان الدروز والمسيحيين، من الضروري أولاً معرفة المزيد عن نظام "هيئة تحرير الشام" في دمشق. وقد سبق أن شرحت في هذه الصفحات أنه لا بد لمن أعاد تسمية نفسه اليوم بأحمد الشرع، ولحكومة "هيئة تحرير الشام" التي يترأسها، أن يمرا باختبارات عديدة، من بينها فتح ملفات نظام الأسد بالكامل، في موضوعي الرهائن الأجانب وبرامج أسلحة الدمار الشامل. ومن ثم، لا شك في أن الكشف عن جميع الصفقات التي أبرمها الأسد مع "حزب الله" سيشكل مادة دسمة للقراءة.

لكن البيت الأبيض، الذي يسعى طبعاً إلى الحصول على معلومات عن جهود الأسد في مجال تصنيع الأسلحة الكيماوية والبيولوجية من جهة، وعن المواطنين الأميركيين في عداد المفقودين من جهة أخرى، يصب اهتمامه على ما يبدو في تحقيق أولويات تركيا و"هيئة تحرير الشام"، على حساب مصالح الولايات المتحدة. فعلى سبيل المثال، وجه السفير توماس باراك الانتقادات لإسرائيل على الهجمات التي شنتها على مراكز القيادة العسكرية السورية في دمشق. وهنا، يطرح سؤال حول ما إذا كانت تعليقات باراك تعبر عن وجهته الشخصية، أم أنها صدرت بتفويض من واشنطن، لأن انتقاد حليف للولايات المتحدة عادة ما يتطلب تفويضاً.

وعلاوة على ذلك، يصدر باراك اعتذارات علنية على خلفية تقاعس الشرع عن إقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل، علماً بأن تبرير أفعال أية دولة أخرى ليس من صلاحيات سفير الولايات المتحدة. وبالتالي، يدخل هذا النمط في صميم "الانصهار مع أجندة الدولة المضيفة"، وهو بمثابة داء مزمن ألم بوزارة الخارجية الأميركية، يطلق عليه أحياناً بنبرة ساخرة اسم "التأقلم المفرط مع البيئة المحلية". وفي هذا السياق، لا بد من تنبيه السفير باراك من الأعراض التي يظهرها، فالطريق لا يزال طويلاً أمامه، وأمام البيت الأبيض، ليفهما تعقيدات المنطقة.

شارك المقال: