تبدو الساحة السياسية والأمنية في غزة مفتوحة على احتمالات متناقضة، حيث تبرز لأول مرة إشارات واضحة من حركة حماس نحو قدر من المرونة في التفاوض، بعد أشهر من الجمود الذي عطّل جولات سابقة
هذه المرونة، التي تمثلت في تراجع عن بعض المطالب السابقة، جاءت بالتوازي مع مقترح أميركي جديد حمل بصمة المبعوث ستيف ويتكوف، وسُرّب عبر صحيفة "إسرائيل هيوم"، متضمناً إمكانية التوصل إلى وقف طويل الأمد لإطلاق النار في القطاع.
لكن في المقابل، فإن الحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو رفعت سقف مطالبها إلى الحد الأقصى، مؤكدة رفضها لأي تسوية جزئية، ومتمسكة بشرطين أساسيين: إطلاق سراح جميع الرهائن الإسرائيليين، ونزع سلاح حماس بالكامل. بين هذه المرونة الفلسطينية والتشدد الإسرائيلي، يتأرجح المسار التفاوضي وسط ضغوط شعبية داخل إسرائيل وضغوط دولية متنامية.
مرونة حماس: تراجع عن شروط سابقة
التطور الأبرز في المشهد الراهن جاء من داخل أروقة القاهرة، حيث التقى وفد من حماس مع الوسطاء المصريين والعرب. ونقلت صحيفة تايمز أوف إسرائيل عن مسؤولين إسرائيليين أن الحركة أبدت استعداداً للتراجع عن بعض الشروط التي كانت قد عطّلت محادثات الدوحة.
هذه المرونة تفتح – وفق مراقبين – نافذة جديدة أمام استئناف التفاوض، بعد أن بدت جولات سابقة وكأنها مغلقة بالكامل. وتؤكد مصادر عربية مطلعة أن الوسطاء المصريين والقطريين نقلوا هذه الرسائل إلى الجانب الإسرائيلي، الذي اكتفى بتشديد موقفه الرافض لوقف جزئي لإطلاق النار، مع التلويح بخيارات عسكرية جديدة.
وكشفت صحيفة "إسرائيل هيوم" أن المقترح الأميركي الذي صاغه ويتكوف، وجاء عقب اجتماعات في القاهرة، يتضمن اتفاقاً شاملاً لوقف إطلاق النار طويل الأمد في غزة. ووفق التسريبات، فإن حماس أبدت استعدادها لمناقشة بنود المقترح، ما أعطى الانطباع بأن الحركة تبحث عن مخرج سياسي يوقف الحرب المستمرة منذ أشهر.
ومع أن تفاصيل الخطة لم تُعلن بالكامل، إلا أن قبول حماس بالنقاش حولها يشكل نقطة تحول مهمة، خصوصاً أن الحركة كانت قد تمسكت سابقاً بمطالب وُصفت في إسرائيل بأنها "تعجيزية".
إسرائيل: لا لتسويات جزئية
على الجانب الآخر، لم تُظهر الحكومة الإسرائيلية أي مؤشرات على المرونة. بل على العكس، شددت تل أبيب على أن أي اتفاق يجب أن يتضمن شروطها الكاملة، وأبرزها الإفراج عن جميع الرهائن الإسرائيليين ونزع سلاح حماس. كما لوّحت بالاستعداد للتخلي عن خطط السيطرة على مدينة غزة، لكن فقط في حال قبول الحركة بجميع المطالب الإسرائيلية.
هذا التشدد ترافق مع إعلانات عسكرية، حيث أكد الجيش الإسرائيلي عزمه شن هجوم جديد للسيطرة على مدينة غزة – أكبر المراكز الحضرية في القطاع – رغم أن المتحدث باسم الجيش أعلن في الوقت نفسه عن خطط لتزويد سكان غزة بخيام ومعدات إيواء عبر معبر كرم أبو سالم، في إطار التحضير لنقل المدنيين من مناطق القتال إلى الجنوب.
وسط تصلب المواقف الرسمية، برزت في الداخل الإسرائيلي موجة احتجاجات متصاعدة. فقد شهدت تل أبيب تظاهرة ضخمة ضمت عشرات الآلاف للمطالبة بوقف الحرب وإبرام صفقة تبادل تفضي إلى الإفراج عن المحتجزين في غزة.
أوضح محرر الشؤون الإسرائيلية لسكاي نيوز عربية نضال كناعنة خلال حديثه الى برنامج "التاسعة" أن "العنوان الرئيسي للتظاهرات والإضرابات هو صفقة شاملة، لحماية المحتجزين والجنود على حد سواء، لأن العملية العسكرية الجديدة ستشكل خطراً على حياتهم".
وأضاف كناعنة أن العائلات المشاركة ترى أن الصفقة الجزئية ستترك رهائن آخرين في قبضة حماس، ما يعني استمرار الأزمة. لذلك، تتجه الأنظار نحو الإضراب الواسع الذي دعت إليه العائلات، ووجد تجاوباً من عشرات الشركات والنقابات، بينها نقابة الأطباء والمحامين، إضافة إلى شركات التكنولوجيا المتقدمة (الهايتك).
تصاعد الإضرابات
الإضراب في إسرائيل ليس شاملاً، لكنه – وفق كناعنة – يمثل "خطوة أولى تهدد بما هو أكبر لاحقاً، خاصة إذا انضمت النقابات العامة ذات الثقل". التظاهرات المتزايدة تعكس أيضاً تنوعاً متنامياً في الشارع الإسرائيلي، حيث تنضم شرائح جديدة ترى أن استمرار الحرب يهدد أبناءها المجندين في غزة لأسباب "سياسية شخصية أو عقائدية مرتبطة باليمين المتطرف"، على حد وصفه.
هذا الحراك الشعبي، المقرون بضغوط دولية غير مسبوقة، يضع نتنياهو أمام مأزق سياسي داخلي، إذ تكشف استطلاعات الرأي أنه لم يحقق مكاسب سياسية رغم استمرار العمليات العسكرية.
لم يعد الغطاء الدولي لإسرائيل كما كان في بداية الحرب. فبعدما وقفت الولايات المتحدة والرئيس دونالد ترامب بقوة إلى جانب نتنياهو في الأسابيع الأولى، بدأت الضغوط الأوروبية تتزايد. وأصبحت بعض الدول، مثل ألمانيا، تلوّح بتقليص التعاون العسكري، وهو أمر غير مألوف بالنظر إلى العلاقة الخاصة بين برلين وتل أبيب.
هذه المتغيرات تجعل قدرة إسرائيل على الاستمرار في الحرب محدودة زمنياً، بحسب مراقبين، وتزيد من احتمال قبولها في نهاية المطاف بمسار تفاوضي، ولو اضطرارياً.
من جانبه، قدّم إبراهيم المدهون، مدير مؤسسة "فيميد" الفلسطينية للإعلام، رواية مغايرة للمشهد. ففي حديثه لبرنامج "التاسعة"، قال إن حركة حماس أبدت استعدادها المتكرر للتفاوض وقبول أوراق مكتوبة عبر الوسيط المصري، لكنها اصطدمت مراراً بانسحاب إسرائيلي مفاجئ في اللحظات الأخيرة.
وأضاف: "كانت هناك شبه صفقة تم التوصل إليها، وكان الوفد الإسرائيلي مستعداً للتوقيع، لكن جاءت أوامر من تل أبيب بالانسحاب. هذا يؤكد أن النية الإسرائيلية ليست التوصل إلى حل، بل إكمال الإبادة وتهجير الشعب الفلسطيني".
وشدد المدهون على أن حماس تعتبر وقف الحرب أولوية مطلقة، ومستعدة لكل ما يمكن أن يحقق ذلك، متهماً إسرائيل باستغلال الوقت لمواصلة عمليات القتل.